الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

العقل بين الاستغلال والاستقلال



العقل بين الاستغلال والاستقلال


قال أحمد عصيد: [العلمانية فكريا هي استقلال العقل وسلطته..العقل هو الذي يحسم ويختار ما هو خير ويتجنب ما هو شر..هذه أطروحة المعتزلة . لا تبقى مع سلطة العقل سلطة النص..فالعقل حينما يكون مستقلا يعطي لكل ذي حق حقه]
قلت: هذا موضوع استهلك بحارا من المداد وغابات من الأقلام والأوراق..ولا يزيده سعة ما سأكتبه هنا..لكنني سأكتب كلمات أقصد بها رفع التشويش العصيدي ....فقط...!
إن دعوى استقلال العقل عن الوحي في القدرة على معرفة المصالح الإنسانية ومظانها ..أو استقلاله عن سلطة الوحي في الفعل والترك قديمة..وقد  اختلفت مدارس الفلسفات العالمية في طريقة الإفصاح عن هذه الدعوى وممارسة مقتضياتها.لكن القدر المشترك بينها جميعا ..أن جل من يمجد في هذا العقل...لا ينفك منتقصا من الوحي والأديان...حتى صارت شبه لازمة فلسفية...سخيفة.
تقوم أصل المشكلة عند هؤلاء على عدم تحرير مصطلح العقل...وعدم تحديد هويته الطبيعية, فمصطلح بلا تحرير ولا تحديد غير مؤهل ليكون مرجعية أو مقياسا لغيره, بله أن يكون إلها يعبد من دون الله تعالى.
لقد وصل الأمر ببعض المتفلسفين مثل جون لوك إلى الإفراط في تمجيد العقل ورفعه عن مستواه الطبيعي الذي لا يمكن أن يتخطى نسبية الأحكام في الغالب فقال في (  An Essay Concerning Human Understanding/ص510)كما في كتاب راندال: (لم تبق حاجة أو نفع للوحي في مثل هذه الأمور كلها, طالما أن الله أعطانا وسائل طبيعية أكثر يقينا لنتوصل بها إلى معرفة هذه الأمور...لأن الحقائق التي تتضح لنا من معرفتنا لأفكارنا أو تأملنا لها تكون دائما أوثق من تلك التي تأتينا عن طريق الوحي التقليدي) ص511 
فطبيعة المفكر العلماني الخالص تأبى إلا الكفر بالوحي وانتقاصه..يقول كرين برنتون [Crane Brinton] في (تشكيل العقل الحديث/ص120) وهو أحد كبار مؤرخي الفكر الغربي: (المفكر العقلاني يميل إلى الموقف القائل بأن المعقول هو الطبيعي, ولا وجود لشيء خارق للطبيعة...ولا مكان في مخططه الفكري لقوى خارقة, ولا محل في عقله للاستسلام الغيبي لعقيدة ما)!!! هذا على فرض معرفة معنى (العقل) و(العقلاني) ...بحيث نستطيع اتخاذ عقل معياري نضعه في مقابل الوحي تجوزا وإلا فالحقيقة وراء هذا كله....!
لقد انتبه المسلمون قديما لهذا, فبينوا حقيقته وأشاعوا بين الناس فضيحته, ليأمن الناس تشويش أهل البدع والزنادقة, وينأوا بعقولهم عن تدليسهم ,فلم يأت بنو علمان بجديد ولم يأت أحمد عصيد بغريب حينما أقحم المعتزلة في كلامه , وأقول له: كان محمد أركون أمكر منك...! حين قال في (قضايا في نقد العقل الديني (ص279/حاوره فيه الأستاذ هاشم صالح): (...لا يمكنك أن تدحض كلام السلفيين المعاصرين بالنظريات الفلسفية الغربية...يمكنك أن تدحضه بكلام الشق الثاني من التراث الإسلامي ذاته) ويقصد المعتزلة ... ولم يفلح!
وسر الخلاف بيننا وبين بني علمان في طبيعة علاقة العقل بالنص...قال أبو المظفر السمعاني رحمه الله (ت489هـ) رحمه الله  في [الحجة في بيان المحجة 1/ 320]: (فصل ما بيننا وبين المبتدعة هو مسألة العقل, فإنهم أسسوا دينهم على المعقول، وجعلوا الإتباع والمأثور تبعاً للمعقول، وأما أهل السنة، فقالوا: الأصل في الدين الإتباع، والمعقول تبع، ولو كان أساس الدين على المعقول لا ستغنى الخلق عن الوحي، وعن الأنبياء، ولبطل معنى الأمر والنهي، ولقال من شاء ما شاء، ولو كان الدين بني على المعقول لجاز للمؤمنين أن لا يقبلوا شيئاً حتى يعقلوا).
وليس قصده التقليل من شأن العقل, بل وضعه في موضعه الذي خلق له, وجعله في مرتبته التي اختيرت له,فالعقل عند المسلمين مناط التكليف والفهم ,وهو للوحي كالعين للنور. قال علامة المقاصد والعقلانية الفقهية أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات (2/37/دار الكتب العلمية) ردا على من زعم استقلال العقل بإدراك المصالح الدنيوية بالتفصيل اعتمادا فقط على التجارب والعادات والظنون المعتبرات: (فالعادة تحيل استقلال العقول في الدنيا بإدارك مصالحها ومفاسدها على التفصيل,اللهم إلا أن يريد هذا القائل أن المعرفة بها تحصل بالتجارب وغيرها بعد وضع الشرع أصولها فذلك لا نزاع فيه)  
فليست المعركة في الإسلام بين العقل والوحي...بل بين الوحي المحمول على سراج العقل وبين... الأهواء !
وأما أن العقل المستقل عن الوحي يعطي كل ذي حق حقه فأضحك الله سن أحمد عصيد..فله أحيانا حس فكاهة ظاهر.فكم رأينا ممن يعتقد فيه العقل...والعقلانية...من المفكرين وفلاسفة الأدباء, وأدعياء السياسة, وظلمة الحقوقيين, وأغبياء مراكز الدراسات ...يرتكب من أنواع الحماقات والسفاهات ..ويطق بأنواع السخافات والمستبشعات...ما يلحقه بطائفة عقلاء المجانين!

الدين والإنسان



  الدين والإنسان




اتفق المفكرون والكتاب على أهمية تحرير المصطلحات وتحديد مساحاتها المضمونية وفضاآتها الدلالية, فالمصطلح هو حامل المعنى وحاميه, والمُعاني في تحقيق المعاني يحتاج إلى معرفة فلسفة الاصطلاح وقوانينه الوضعية في التعابير العربية المحكومة بالسياقات والمقاصد.فلكل علم مصطلحاته الخاصة, يميزها تاريخ ووضع مميزان, يجعلانه مفتاح الفن ومركب السياحة في عالمه. والمصطلحات الشرعية من المصطلحات الأكثر دقة , لتميز المصدر والمقصد والمضمون والسياق, وأكثر منه دقة المصطلح القرآني الرباني, الذي يحتاج مستعمله قراءة وكتابة إلى عمق في النظر ودقة ورقة في الاستعمال, وإحساس بالمسؤولية عند كتبه وقراءته.ومصطلح (دين) مصطلح قوي ثابت في نفسه.. محرك لغيره..يحمل شحنة ثقافية كبيرة, ويتميز بزنة حضارية ثقيلة, وبالنظر إلى أصله وأس معناه يكتشف الناظر أنه أمام مركب متكامل , ومحتوى عميق.وتظهر خطورة المصطلح في الاستعمالات الفكرية والسياسية, مثل (فصل الدين عن السياسة) و(رجال الدين) و(الخطاب الديني) و(الأحزاب الدينية)...

قال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة وهو كتاب يعنى بذكر أصل معاني جذور الكلمات العربية:

(دين) الدال والياء والنون أصل واحد إليه يرجع فروعه كلها. وهو جنس من الانقياد والذل. فالدين: الطاعة.

وقال الزبيدي في تاج العروس: الدين : ( الطاعة ) ، وهو أصل المعنى... وذكر قوله تعالى : (ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) أي طاعة.وعليه .. فكلمة الدين تعني الطاعة..وما يشتق منها على جهة المعنى هو الانقياد والقبول والتذلل والخضوع..وعلى هذا فـ(رجال الدين) معناه رجال الانقياد لأوامر الله..ومعنى (فصل الدين عن السياسة) فصل طاعة الله عن السياسة, ومعنى (الأحزاب الدينية) الأحزاب القائمة على الخضوع لما أنزل الله على الرسول,ومعنى (الخطاب الديني) الخطاب المبني على طاعة الله ودعوة الناس إلى الخضوع لله وشرعه.!!

قد يكون هذا صادما لقليل  ممن يقرأ مقالي..ربما لأنه لم ينتبه يوما للبعد الاصطلاحي للكلمة, وربما بسبب قوة التشويش المنبعثة من أقلام بعض المشاغبين...أو لغلبة العرف الاصطلاحي...وإذ الأمر قد اتضح , فليرجع كل إلى موضعه على نقاط الحراسة على حدود الشريعة .

وأزيد على هذا أن من ألطف التعاريف النابضة بالحياة ما نقله الزبيدي في التاج  عن ابن الكمال فإنه قال: (الدين, وضع إلهي يدعو أصحاب العقول, إلى قبول ما هو عن الرسول ) فجمع الدين والعقل والرسول في نسق جميل .

لقد سلك أحمد عصيد في استعمال كلمة (الدين) مسلك بني جلدته في فساد المنزع وسوء النية, أو ربما عمق الجهل والهشاشة العلمية.

وسآخذ مثالا للاستعمال الدارج لبني علمان للمصطلح على لسان قلم أحمد عصيد..وربما أزرار لوحة مفاتيحه..فإنه تحدث عن الخلاف القائم بين أنصار الدين وأنصار الإنسان...فالأولون يجعلون الدين فوق الإنسان..والآخرون يجعلون الإنسان مركز كل شيء..فيعلو ولا يعلا عليه!

لقد عكف أحمد عصيد فلسفيا على جعل الأولوية للإنسان قيمة عليا  في [مقابل الفكر الذكوري الذي يعتبر النص الديني والدين أعلى وأسما ] ثم يتساءل: [ ما قيمة الدين إذا لم يخدم كرامة الإنسان؟] ثم يقول: [..لا يمكن لأي شيء أن يأخذ الصدارة على الإنسان,في تاريخ الفكر الإسلامي ثبتت أن الأولوية ليست للإنسان بل هي للدين بدليل الضرورات الخمس] كما في مداخلة له موضوع المرأة والعلمانية

وعلى ضوء ما بينته من معنى (الدين) فقد اتضحت حقيقة مقاصد كلام أحمد عصيد...فإن كان هو وقبيلته الفكرية يعرفون هذا المعنى فالأمر إذن قائم على المدافعة بين طاعة الله ومخالفته , بين قبول شرعه ورده, بين الانقياد لأوامره والإعراض عنها...فالعلماء رجال طاعة الله...والأحزاب الدينية أحزاب رضيت نظريا بطاعة الله منهجا لها...والعلمانية إقامة مؤسسات الدولة على غير طاعة الله...

وإن كانوا لا يعرفون..فهم مسرفون.

وعودا على كلام أحمد عصيد....

من الأسما..الإنسان...أو انقياده لخالقه؟ من الأفضل...السيارة..أو انقيادها لصانعها وسائقها؟ ما قيمة الإنسان إذا لم ينقد لخالقه مطيعا وخاضعا ومتذللا؟ ما قيمة السيارة التي لا تستجيب لما صنعت له..ولم يسهل انقيادها لسائقها؟

هكذا هي المسألة عند المسلمين...يقيمون ويُقَوِّمون نظرهم بقوله تعالى : (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)  فأثبتوا الخلق ومقصده..ونفوا انفراد الإنسان بالوجود العاقل..ولست أدري موقف أحمد عصيد من هذا ؟

وبعد هذا كله..سيبدو سؤال أحمد عصيد (ما قيمة الدين إذا لم يخدم كرامة الإنسان) سخيفا مضحكا..فمعناه: (ما قيمة طاعة الإنسان لله إذا لم يخدم كرامته)؟ وهل علمنا من طاعة الله تعالى غير ذلك؟...ولذلك كانت كرامة الإنسان عندنا في جعله الدين اسما وأعلا. وقد ثبت هذا في تاريخ الفكر الإسلامي...فلماذا يسلم الناس إذن؟

أما استدلاله على جعل المسلمين الدين مقدما على الإنسان بما يذكره العلماء في الضروريات الخمس...إحدى أيقونات علم المقاصد الشرعية ...فأمر لا يقدر عليه أحمد عصيد..ولا يحسن تلاوته...فذاك بحر له ملاحوه.. وحسبه أن يحسن الاستحمام في سطل من المشاغبات الفكرية الباردة.

لباس المرأة



لباس المرأة

بسم الله الرحمن الرحيم
قال أحمد عصيد في مقال له بعنوان: الأخلاق الدينية ولعبة الأقنعة:
المرأة التي يتم تلفيفها في أنواع القماش الأسود هي أبعد ما تكون عن العفّة و الكرامة في واقع الأمر، لأن هاتين القيمتين لا ترتبطان بالمظاهر الخارجية للسلوك، كما أنهما لا تنفصلان عن الحرية وعن التربية العقلانية السليمة.
في هذا الكلام ... مغالطات...!
المغالطة الأولى: أنه زعم أن المرأة المسلمة يتم تلفيفها..والصحيح أنها تلف نفسها بنفسها..وقصد أبي عصواد من هذا الإشارة زورا وكذبا إلى أن المرأة المسلمة مرغمة على ذلك تراثيا ..! والصحيح أنها مأمورة في كتاب الله تعالى بقوله عز وجل سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (59-الأحزاب) وقوله تعالى : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)(31-النور)
ولذلك انتبهت الباحثة كاثرين بولوك  (Katherine Bullock) - التي أسلمت سنة 1994 ولبست الحجاب - فقالت في كتابها (Rethinking Muslim Women and the Veil) الذي ترجمه الدكتور شكري مجاهد إلى العربية وسماه (نظرة الغرب إلى الحجاب/مكتبة العبيكان):
(كنت أشعر أن الحجاب مجرد تراث ثقافي، يمكن للمسلمات أن يسعين إلى القضاء عليه. ولكن عندما عرضت عليّ آيات القرآن، التي يعتقد كثير من المسلمين أنها تفرض الاحتشام على الرجال والنساء جميعاً، تبدد عندي كل شك في فرضية الحجاب. إذا كانت الآيات بهذا القدر من الوضوح، فحينئذ يكون الحجاب فرضاً على كل امرأة مسلمة مؤمنة.، ولا مفر لها منه) اهـ. فحجب المرأة لبدنها بالثياب الساترة أمر إلاهي وليس تشددا فقهيا كما يزعم بنو علمان ..!
المغالطة الثانية:أنه زعم أن لباس المرأة المسلمة الساتر أبعد ما يكون عن العفة والكرامة في واقع الأمر...وهذه شهادة زور تفوح لؤما وتدلسيا...وهي من أقبح السب الذي رأيته من آل علمان في حق المرأة المتسترة...والصحيح أن هذا اللباس يحمل إشارات ثقافية من صاحبته...فهو مسؤولية ورسالة قبل أن يكون قطعة قماش...!
أما دلالته الثقافية والاجتماعية على العفة ففي قوله تعالى :( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)..أي يعرفن بالعفة..فلا يؤذن بنظرات ساقطة...فالشرع يعتبر هذا القماش الذي تتلفف فيه المرأة علامة ظاهرة على العفة...وصدق الله العظيم.
وفي الآية رد على زعم من يزعم أن الأمر بتغطيتها هو لأجل منع شرها عن غيرها...وهذا اختزال خسيس ومفضوح ...فالآية تقرر أن الغاية من ذلك هو كف أذى غيرها عنها...فتأمل
صحيح أنها بلباسها تمنع غيرها من الافتتان ببدنها...لكن غاية ذلك ومنتهاه..أن تكف عن نفسها أذى محتملا ممن قد يفتتن بها...!
ومحاولة أحمد عصيد لتعليل اللباس الساتر بعفة لابسته أمر غريب...فإن التجريد شرط في الأحكام الصحيحة...وأتذكر قصة حكاها لنا شيخنا بوخبزة حفظه الله تعالى عن ضابط إسباني زنا في المنطقة الخليفية بتطوان زمن الحماية الإسبانية , فقبض عليه وأمر القائد أشعاش التطواني بضربه بعد نزع بذلته عنه, فشكي إلى القيادة الإسبانية , فأرسل إليه من ينكر عليه ذلك, فوجده قد علق البذلة في الحائط منتظرا قدومه, فلما بادر بالإنكار عليه, قال له أشعاش:.إنما ضربته هو..مع احتراماتنا للبذلة العسكرية..وأشار إليها معلقة في أحسن حال...فسقط المبعوث في يده..ورجع يجر ذيول الخذلان.واللبيب بالإشارة يفهم..!
وأما الكرامة فإن لباس الحشمة والعفة إثبات للذات, وتحرر من الاستيلاب والتبعية في إيجابية وتميز, وتوجه عالمي نحو تحقيق الرسالية والعبودية لله تعالى, و تعزيز لدور المرأة الحضاري في التنمية وإثبات الحضور الاجتماعي..وسمو عن اعتبارها كتلة لحم ......!وهذا أكبر من أن يستوعبه عقل أبي عصواد !
قال الله تعالى قال : (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)(53-الأحزاب) والآية وإن كانت في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فهي عامة في النساء لعموم العلة, فجعل المرأة بينها وبين الرجل ستارا, جدارا كان أو إزارا, موجب لطهارة القلوب...بنص القرآن الكريم...فالجدار حيث تتخفف المرأة من لباسها..فإن خرجت تسترت بالجلباب الذي يسميه ابن مسعود إزارا...وأحمد عصيد يقول:...هذا اللباس لا علاقة له بالعفة وطهارة القلوب...بل هو أبعد شيء عنها...!!!
ولو انتبه المنصف لعلم أن في الأمر بالحجاب أمارات اجتماعية راقية على أن لباسها ذاك دليل على استعدادها للحياة العامة الرحبة القائمة على المسؤولية الرسالية والوظيفة الاجتماعية.يقول الدكتور أحمد الأبيض في (فلسفة الزي الإسلامي ص 12) : (اللباس الشرعي يرفع عن المرأة الكلفة والحرج ودواعي الاستيلاب , ويفتح المجال الاجتماعي أمامها واسعا لتساهم من جانبها إلى جانب شقيقها الرجل في إقامة صرح المجتمع التوحيدي) وقصده بهذا أنها بذلك تثبت وجودها الإنساني بعيدا عن نظرات وعقليات الشهوة التي تختزلها في (شيء).  
لست أدري إن كان أحمد عصيد يعرف أن مسألة اللباس اليوم صارت محورا لكثير من الدراسات السوسيولوحية والأنثروبولوجية التي أكدت أن اللباس لغة اجتماعية راقية, وأن اللباس ديوان تاريخي لحركة العقل البشري وتطوره الفكري والثقافي...فالطريقة التي يحاول بنو علمان أن (ينمطوا) بها نظر الناس للباس المرأة الشرعي تدل على إسفاف ثقافي وسفالة حضارية وفجور سياسي..وقد تجاوز العلم هذا بمراحل...فاللباس صار الآن في نظر الأنثروبولوجيا كما يقول المؤرخ والأثروبولوجي الفرنسي (André LEROI-GOURHAN) أندري لوروا غوران (وسيلة للكرامة ورمزا للوظيفة الإنسانية).فتأمل قوله: وسيلة...أي أنها مما يستعين به لابسه على تصحيح المسار وتسديد الهدف.وتأمل قوله (رمز) للتنبيه على ما ذكرناه..فكان ينبغي على أحمد عصيد أن يتحدث عن لباس المرأة باستحضار أبعاده الكبرى التي حددتها دراسات متواترة وجادة في الباب..وأن يأتي الدار من بابها عوض محاولة تسلق جدران الشريعة العالية...قبح الله الحمق!
هذا وأستطيع القول: إنه لا زالت هناك أبعاد مجهولة أو متجاهلة في الحديث عن اللباس, يدل عليها وجود تساؤلات وإشكاليات تاريخية واجتماعية لا تزال قائمة بغير أجوبة علمية مقنعة, وقد أشار  إلى بعضها (رولاند بارد/ Roland Barthes) في مقال له بعنوان:(تاريخ وسوسيولوجية اللباس/ HISTOIRE ET SOCIOLOGIE DU VÊTEMENT)
ولعل الدكتور أحمد الأبيض استطاع أن يجمل ذلك في كلمة ثقيلة في (فلسفة الزي الإسلامي ص24و25) حين قال: (في هذا المناخ المتسمم من الاغتراب الحضاري , يبدو الزي الإسلامي للمرأة المسلمة كتعبير صارخ منها على تأكيدها على هويتها وشخصيتها المتميزة, ورفضها للانبتات أو الالحاق الحضاريين, فالزي الإسلامي للمرأة هو تعبير عن اكتشاف لطريق النهضة في إطار التواصل التاريخي لمجتمعنا في منأى عن الدوران في فلك المركزية الأوروبية...فالزي الإسلامي للمرأة إذن تعبير عن إحساس عميق ووعي حاد بجميع أبعاد اللحظة الراهنة وما تستلزمه من أدوار حاسمة لإحداث التطور الاجتماعي المرتقب, بعيدا عن كل اغتراب زمني في ماضي الذات أو في حاضر الآخر)...........رائع.!
كان ينبغي على أحمد عصيد ومن لف لفه...وأطال صفه...أن يعلموا أن لباس المرأة الشرعي كان سطرا من الرسالة الحضارية التي حملها العائدون من الحروب الصليبية إلى أوروبا الجاهلية... كما يقول آدم ميتز في الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (2/226): (لما اتصل أهل أوروبا بالشرقيين أيام الحروب الصليبية, نقلوا إلى بلادهم هذه القلانس الطوال ومعها الخمر, وجعلوها لباس النساء في الغرب)
وكان ينبغي أن يعلموا أيضا أن لباس المرأة الساتر كان أثرا من الآثار الحضارية للوجود الإسلامي في الأندلس, إلى درجة أن النساء النصرانيات كن يقلدن المسلمات الأندلسيات في لباس الحايك و تغطية الوجه إلا عينا واحدة...بل وصل الأمر بهم إلى تخليد ذكرى المرأة المحجبة بالسواد في بلدة (بخير) قرب قادس بتمثال مطل على القرية ...في أبهى حلة ..وأعلى محلة.
وسبب هذا هو ما استطاعه الإسلام من إعادة إحياء الصلة بين الباطن والظاهر في حياة الناس...فصار الظاهر عنوانا على الباطن..وصار الباطن محددا لشكل الظاهر وصورته... قال الدكتور فريد الأنصاري في سيماء المرأة في الإسلام (ص57): (إن لباس المرأة في الإسلام ليس أحكاما شكلية فحسب على ما يعتقده بعضهم, كلا, إن اللباس مضمون جوهري يضرب في عمق الغيب, إنه بعد وجودي يرتبط بالطبيعة الوجودية للمرأة من حيث هي إنسان) وصدق رحمه الله.
المغالطة الثالثة: زعم أن العفة والكرامة مرتبطة بالحرية والتربية العقلانية
وجهة المغالطة في هذا الكلام هو عدم وضوح الروابط الفكرية بين المصطلحات ومعانيها في الاستعمال العصيدي...فإن كانت الحرية التي يتحدث عنها أحمد عصيد هي حرية المرأة في أن تستعمل جسدها كيفما شاءت ولو في الزنا التي يسميها أحمد عصيد وثلة المشاغبين لؤما وخبثا (العلاقات الحميمية), فإن العفة التي يتكلم عنها أبو عصواد حينها ستكون هي السفالة الأخلاقية... إحدى أقبح أنواع العفن الاجتماعي.!!
وهذا في الحقيقة مقصد العلمانية المغربية على الخصوص , وقد نبه الدكتور فريد الأنصاري في (الفجور السياسي/ص 69-70) إلى أن العلمانية المغربية اختارت الأسلوب السوسيوسياسي للقضاء على حركة الوعي الإسلامي, وهو أخطرها وأكثرها فعالية في البلوغ إلى هدفها بأقل الخسائر, لتجفيف منابع التدين, وتلقيح المجتمع ضد الصلاح, والوصول بالرأي العام إلى مستوى الرفض الاختياري لكل ما هو نظيف !!
إن نفي أحمد عصيد أن تكون العفة مرتبطة ارتباطا ثقافيا ورمزيا بالعفة يعني أنه يعتقد أن المتبرجة والعارية أكثر عفة وكرامة بسبب الحرية والتربية العقلانية...وهذا في الحقيقة منتهى التسيب واللاعقلانية!
إن موقف أحمد عصيد وثلته ليس موقفا من قطعة قماش تلف فيه المرأة كما قال...بل هو موقف من أحد رموز الحضارة الإسلامية...ويحسن هنا صوغ هذا السؤال: إذا كان هذا اللباس بهذا الثقل الحضاري والسعة الثقافية فما أثره على البناء الفكري والنفسي..والجواب في قول الدكتور أحمد الأبيض في (فلسفة الزي الإسلامي ص36) : (عندما تختار المرأة ما اختاره لها ربها من زي إسلامي ومناشط اجتماعية وجهادية, فإنها ستجد أن لباسها الشرعي يذكرها في كل لحظة بذاتها وهويتها الرسالية, فسيكون عامل صد عن سلوك مائع إذ لا يستسيغ لا الوعي الفردي ولا الوعي الجمعي أن يصدر منها ذلك وهي رمز العفة والطهر,سيكون دافعا قويا ومحرضا مستديما على الجهاد..) ...وهذا الذي فهمه أحمد عصيد وجماعته... وتفطنوا لبعده الكوني...فأظهروا الغفلة عنه...فقاموا في وجهه مثل ما نقلته عن أبي عصواد... وقبلهم تقرير راند الأمريكي المتعلق بالإسلام الديمقراطي الذي أشار إلى أن  (الإسلام لا يأمر بارتداء أي نوع من الحجاب أو غطاء الرأس)... هذا هو حال الطفيليات الفكرية أمام عاصفة الحضارة الإسلامية..التي تقتلع الفساد وترمي به في مزبلة التاريخ...ركاما بعضه فوق بعض...!
هذه هي عقلية أبي عصواد , وهذه هي نتيجة التربية (العقلانية) العلمانية... التي تلاقاها أبو عصواد في مدرسة المشاغبين!! حسبي الله ونعم الوكيل.