لباس المرأة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أحمد عصيد في مقال له بعنوان: الأخلاق
الدينية ولعبة الأقنعة:
المرأة التي يتم تلفيفها في أنواع القماش
الأسود هي أبعد ما تكون عن العفّة و الكرامة في واقع الأمر، لأن هاتين القيمتين لا
ترتبطان بالمظاهر الخارجية للسلوك، كما أنهما لا تنفصلان عن الحرية وعن التربية
العقلانية السليمة.
في هذا الكلام ... مغالطات...!
المغالطة الأولى: أنه زعم أن المرأة المسلمة يتم
تلفيفها..والصحيح أنها تلف نفسها بنفسها..وقصد أبي عصواد من هذا الإشارة زورا
وكذبا إلى أن المرأة المسلمة مرغمة على ذلك تراثيا ..! والصحيح أنها مأمورة في
كتاب الله تعالى بقوله عز وجل سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ
وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى
أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (59-الأحزاب) وقوله تعالى : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)(31-النور)
ولذلك انتبهت الباحثة كاثرين بولوك (Katherine Bullock) - التي أسلمت سنة 1994
ولبست الحجاب - فقالت في كتابها (Rethinking Muslim Women and the Veil) الذي ترجمه الدكتور شكري مجاهد إلى العربية وسماه (نظرة الغرب
إلى الحجاب/مكتبة العبيكان):
(كنت أشعر أن الحجاب مجرد تراث ثقافي، يمكن
للمسلمات أن يسعين إلى القضاء عليه. ولكن عندما عرضت عليّ آيات القرآن، التي يعتقد
كثير من المسلمين أنها تفرض الاحتشام على الرجال والنساء جميعاً، تبدد عندي كل شك
في فرضية الحجاب. إذا كانت الآيات بهذا القدر من الوضوح، فحينئذ يكون الحجاب فرضاً
على كل امرأة مسلمة مؤمنة.، ولا مفر لها منه) اهـ. فحجب المرأة لبدنها بالثياب
الساترة أمر إلاهي وليس تشددا فقهيا كما يزعم بنو علمان ..!
المغالطة الثانية:أنه زعم أن لباس المرأة
المسلمة الساتر أبعد ما يكون عن العفة والكرامة في واقع الأمر...وهذه شهادة زور
تفوح لؤما وتدلسيا...وهي من أقبح السب الذي رأيته من آل علمان في حق المرأة
المتسترة...والصحيح أن هذا اللباس يحمل إشارات ثقافية من صاحبته...فهو مسؤولية
ورسالة قبل أن يكون قطعة قماش...!
أما دلالته الثقافية والاجتماعية على العفة ففي
قوله تعالى :( ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)..أي يعرفن بالعفة..فلا يؤذن بنظرات ساقطة...فالشرع
يعتبر هذا القماش الذي تتلفف فيه المرأة علامة ظاهرة على العفة...وصدق الله
العظيم.
وفي الآية رد على زعم من يزعم أن الأمر
بتغطيتها هو لأجل منع شرها عن غيرها...وهذا اختزال خسيس ومفضوح ...فالآية تقرر أن
الغاية من ذلك هو كف أذى غيرها عنها...فتأمل
صحيح أنها بلباسها تمنع غيرها من الافتتان
ببدنها...لكن غاية ذلك ومنتهاه..أن تكف عن نفسها أذى محتملا ممن قد يفتتن بها...!
ومحاولة أحمد عصيد لتعليل اللباس الساتر بعفة
لابسته أمر غريب...فإن التجريد شرط في الأحكام الصحيحة...وأتذكر قصة حكاها لنا
شيخنا بوخبزة حفظه الله تعالى عن ضابط إسباني زنا في المنطقة الخليفية بتطوان زمن
الحماية الإسبانية , فقبض عليه وأمر القائد أشعاش التطواني بضربه بعد نزع بذلته
عنه, فشكي إلى القيادة الإسبانية , فأرسل إليه من ينكر عليه ذلك, فوجده قد علق
البذلة في الحائط منتظرا قدومه, فلما بادر بالإنكار عليه, قال له أشعاش:.إنما ضربته
هو..مع احتراماتنا للبذلة العسكرية..وأشار إليها معلقة في أحسن حال...فسقط المبعوث
في يده..ورجع يجر ذيول الخذلان.واللبيب بالإشارة يفهم..!
وأما الكرامة فإن لباس الحشمة والعفة إثبات للذات,
وتحرر من الاستيلاب والتبعية في إيجابية وتميز, وتوجه عالمي نحو تحقيق الرسالية
والعبودية لله تعالى, و تعزيز لدور المرأة الحضاري في التنمية وإثبات الحضور الاجتماعي..وسمو
عن اعتبارها كتلة لحم ......!وهذا أكبر من أن يستوعبه عقل أبي عصواد !
قال الله تعالى قال : (وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ)(53-الأحزاب)
والآية وإن كانت في زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فهي عامة في النساء لعموم
العلة, فجعل المرأة بينها وبين الرجل ستارا, جدارا كان أو إزارا, موجب لطهارة
القلوب...بنص القرآن الكريم...فالجدار حيث تتخفف المرأة من لباسها..فإن خرجت تسترت
بالجلباب الذي يسميه ابن مسعود إزارا...وأحمد عصيد يقول:...هذا اللباس لا علاقة له
بالعفة وطهارة القلوب...بل هو أبعد شيء عنها...!!!
ولو
انتبه المنصف لعلم أن في الأمر بالحجاب أمارات اجتماعية راقية على أن لباسها ذاك
دليل على استعدادها للحياة العامة الرحبة القائمة على المسؤولية الرسالية والوظيفة
الاجتماعية.يقول الدكتور أحمد الأبيض في (فلسفة الزي الإسلامي ص 12) : (اللباس
الشرعي يرفع عن المرأة الكلفة والحرج ودواعي الاستيلاب , ويفتح المجال الاجتماعي
أمامها واسعا لتساهم من جانبها إلى جانب شقيقها الرجل في إقامة صرح المجتمع التوحيدي)
وقصده بهذا أنها بذلك تثبت وجودها الإنساني بعيدا عن نظرات وعقليات الشهوة التي
تختزلها في (شيء).
لست
أدري إن كان أحمد عصيد يعرف أن مسألة اللباس اليوم صارت محورا لكثير من الدراسات
السوسيولوحية والأنثروبولوجية التي أكدت أن اللباس لغة اجتماعية راقية, وأن اللباس
ديوان تاريخي لحركة العقل البشري وتطوره الفكري والثقافي...فالطريقة التي يحاول
بنو علمان أن (ينمطوا) بها نظر الناس للباس المرأة الشرعي تدل على إسفاف ثقافي
وسفالة حضارية وفجور سياسي..وقد تجاوز العلم هذا بمراحل...فاللباس صار الآن في نظر
الأنثروبولوجيا كما يقول المؤرخ والأثروبولوجي الفرنسي (André
LEROI-GOURHAN) أندري لوروا غوران (وسيلة للكرامة ورمزا للوظيفة الإنسانية).فتأمل
قوله: وسيلة...أي أنها مما يستعين به لابسه على تصحيح المسار وتسديد الهدف.وتأمل
قوله (رمز) للتنبيه على ما ذكرناه..فكان ينبغي على أحمد عصيد أن يتحدث عن لباس
المرأة باستحضار أبعاده الكبرى التي حددتها دراسات متواترة وجادة في الباب..وأن
يأتي الدار من بابها عوض محاولة تسلق جدران الشريعة العالية...قبح الله الحمق!
هذا وأستطيع
القول: إنه لا زالت هناك أبعاد مجهولة أو متجاهلة في الحديث عن اللباس, يدل عليها
وجود تساؤلات وإشكاليات تاريخية واجتماعية لا تزال قائمة بغير أجوبة علمية مقنعة,
وقد أشار إلى بعضها (رولاند بارد/ Roland
Barthes)
في مقال له بعنوان:(تاريخ وسوسيولوجية اللباس/ HISTOIRE
ET SOCIOLOGIE DU VÊTEMENT)
ولعل
الدكتور أحمد الأبيض استطاع أن يجمل ذلك في كلمة ثقيلة في (فلسفة الزي الإسلامي
ص24و25) حين قال: (في هذا المناخ المتسمم من الاغتراب الحضاري , يبدو الزي
الإسلامي للمرأة المسلمة كتعبير صارخ منها على تأكيدها على هويتها وشخصيتها
المتميزة, ورفضها للانبتات أو الالحاق الحضاريين, فالزي الإسلامي للمرأة هو تعبير
عن اكتشاف لطريق النهضة في إطار التواصل التاريخي لمجتمعنا في منأى عن الدوران في
فلك المركزية الأوروبية...فالزي الإسلامي للمرأة إذن تعبير عن إحساس عميق ووعي حاد
بجميع أبعاد اللحظة الراهنة وما تستلزمه من أدوار حاسمة لإحداث التطور الاجتماعي
المرتقب, بعيدا عن كل اغتراب زمني في ماضي الذات أو في حاضر الآخر)...........رائع.!
كان ينبغي
على أحمد عصيد ومن لف لفه...وأطال صفه...أن يعلموا أن لباس المرأة الشرعي كان سطرا
من الرسالة الحضارية التي حملها العائدون من الحروب الصليبية إلى أوروبا الجاهلية...
كما يقول آدم ميتز في الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري (2/226): (لما
اتصل أهل أوروبا بالشرقيين أيام الحروب الصليبية, نقلوا إلى بلادهم هذه القلانس
الطوال ومعها الخمر, وجعلوها لباس النساء في الغرب)
وكان
ينبغي أن يعلموا أيضا أن لباس المرأة الساتر كان أثرا من الآثار الحضارية للوجود
الإسلامي في الأندلس, إلى درجة أن النساء النصرانيات كن يقلدن المسلمات الأندلسيات
في لباس الحايك و تغطية الوجه إلا عينا واحدة...بل وصل الأمر بهم إلى تخليد ذكرى
المرأة المحجبة بالسواد في بلدة (بخير) قرب قادس بتمثال مطل على القرية ...في أبهى
حلة ..وأعلى محلة.
وسبب
هذا هو ما استطاعه الإسلام من إعادة إحياء الصلة بين الباطن والظاهر في حياة
الناس...فصار الظاهر عنوانا على الباطن..وصار الباطن محددا لشكل الظاهر وصورته... قال
الدكتور فريد الأنصاري في سيماء المرأة في الإسلام (ص57): (إن لباس المرأة في
الإسلام ليس أحكاما شكلية فحسب على ما يعتقده بعضهم, كلا, إن اللباس مضمون جوهري
يضرب في عمق الغيب, إنه بعد وجودي يرتبط بالطبيعة الوجودية للمرأة من حيث هي
إنسان) وصدق رحمه الله.
المغالطة الثالثة: زعم أن العفة والكرامة
مرتبطة بالحرية والتربية العقلانية
وجهة
المغالطة في هذا الكلام هو عدم وضوح الروابط الفكرية بين المصطلحات ومعانيها في
الاستعمال العصيدي...فإن كانت الحرية التي يتحدث عنها أحمد عصيد هي حرية المرأة في
أن تستعمل جسدها كيفما شاءت ولو في الزنا التي يسميها أحمد عصيد وثلة المشاغبين
لؤما وخبثا (العلاقات الحميمية), فإن العفة التي يتكلم عنها أبو عصواد حينها ستكون
هي السفالة الأخلاقية... إحدى أقبح أنواع العفن الاجتماعي.!!
وهذا
في الحقيقة مقصد العلمانية المغربية على الخصوص , وقد نبه الدكتور فريد الأنصاري
في (الفجور السياسي/ص 69-70) إلى أن العلمانية المغربية اختارت الأسلوب
السوسيوسياسي للقضاء على حركة الوعي الإسلامي, وهو أخطرها وأكثرها فعالية في
البلوغ إلى هدفها بأقل الخسائر, لتجفيف منابع التدين, وتلقيح المجتمع ضد الصلاح,
والوصول بالرأي العام إلى مستوى الرفض الاختياري لكل ما هو نظيف !!
إن
نفي أحمد عصيد أن تكون العفة مرتبطة ارتباطا ثقافيا ورمزيا بالعفة يعني أنه يعتقد
أن المتبرجة والعارية أكثر عفة وكرامة بسبب الحرية والتربية العقلانية...وهذا في
الحقيقة منتهى التسيب واللاعقلانية!
إن
موقف أحمد عصيد وثلته ليس موقفا من قطعة قماش تلف فيه المرأة كما قال...بل هو موقف
من أحد رموز الحضارة الإسلامية...ويحسن هنا صوغ هذا السؤال: إذا كان هذا اللباس
بهذا الثقل الحضاري والسعة الثقافية فما أثره على البناء الفكري والنفسي..والجواب
في قول الدكتور أحمد الأبيض في (فلسفة الزي الإسلامي ص36) : (عندما تختار المرأة
ما اختاره لها ربها من زي إسلامي ومناشط اجتماعية وجهادية, فإنها ستجد أن لباسها
الشرعي يذكرها في كل لحظة بذاتها وهويتها الرسالية, فسيكون عامل صد عن سلوك مائع
إذ لا يستسيغ لا الوعي الفردي ولا الوعي الجمعي أن يصدر منها ذلك وهي رمز العفة
والطهر,سيكون دافعا قويا ومحرضا مستديما على الجهاد..) ...وهذا الذي فهمه أحمد
عصيد وجماعته... وتفطنوا لبعده الكوني...فأظهروا الغفلة عنه...فقاموا في وجهه مثل
ما نقلته عن أبي عصواد... وقبلهم تقرير راند الأمريكي المتعلق بالإسلام الديمقراطي
الذي أشار إلى أن (الإسلام لا يأمر
بارتداء أي نوع من الحجاب أو غطاء الرأس)... هذا هو حال الطفيليات الفكرية أمام
عاصفة الحضارة الإسلامية..التي تقتلع الفساد وترمي به في مزبلة التاريخ...ركاما
بعضه فوق بعض...!
هذه
هي عقلية أبي عصواد , وهذه هي نتيجة التربية (العقلانية) العلمانية... التي
تلاقاها أبو عصواد في مدرسة المشاغبين!! حسبي الله ونعم الوكيل.